وجود الله ووحدانيته
أولاً : جوانب التدليل على وجود الله في الفكر العربي الإسلامي :
لا يخفى على المشتغلين بالفكر الفلسفي العربي ، أنَّ قضية التدليل على وجود الله ومحاولة البرهنة على وحدانيته ، من القضايا الفلسفية التي خاض فيها أكثر فلاسفة الإسلام ، سواءً في المشرق العربي كالكندي والفارابي وابن سينا ، أو في المغرب الإسلامي كابن رشد الفيلسوف الأندلسي .
وفي بحثنا هذا سندرس هذه القضية عند أول فلاسفة الإسلام وهو الكندي . وذلك من خلال المؤلفات والرسائل التي تركها الكندي . تلك الرسائل التي نجد بين ثناياها محاولة قوية من جانبه للتدليل على وجود الله وتقرير وحدانيته تعالى ، من عدة زوايا وجوانب ، نكاد نقطع من جانبنا أنها تنظر إلى المشكلة من جميع زواياها وأبعادها ، حتى تبدو بصورة أقرب ما تكون إلى الوحدة والتكامل .
نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار ، ارتباط بحثه لهذه القضية ، بقضية حدوث العالم وقِدَمه ، تلك القضية التي بحث فيها الكندي ومن جاء بعده من فلاسفة الإسلام .
نوضح ذلك بالقول بأننا إذا رجعنا إلى كتاب " تهافت الفلاسفة " للغزالي ، نجده يذهب إلى أنَّ الفلاسفة الذين قالوا بِقِدَم العالم قد تناقضوا مع أنفسهم حين حاولوا التدليل على وجود الله .
وهذا معـناه أنَّ كل فيـلسوف يقرر أنَّ العـالم قديم ، ثم يُسَّوق أدلـة على وجود الله ، فإنه يـتناقض مع نفسه فيما يقرر الغزالي .
وسبب هذا أنَّ شرط الفعل عند الغزالي هو أن يكون حادثاً ، لأن الحادث لا يوجد من نفسه ، بل يحتاج إلى صانع . أما إذا قلنا بِقدم الـعالم وأثبتـنا له مع ذلـك صانعاً ، أي خالقاً ، فإن هذا يـدلنا على التناقض فيما يرى الغزالي .
وهذا يعني أنّ هناك من المفكرين كالغزالي من يربط بين القول بحدوث العالم والقول بوجود الله ، بحيث أنّ التسليم بحدوث العالم يـؤدي لا مـحالة إلى التسليم بوجود الله . كما يربط بين الـقول بقِدم العالم ، والقـول بعدم الاعتراف بعلة الكون .
ومن هنا فإن بحث الكندي الذي يقول بحدوث العالم يرتبط تماماً بتدليله على وجود الخالق . أي أنّ العالم عنده إذا كان حادثاً ، فإنّ هذا الحادث لا بد له من علة أحدثته وأظهرته إلى الوجود . وهذه العلة هي الله .
فما هي اذن أهم أدلة الكندي على وجود هذه العلة ؟ وكيف أثبت لنا وحدانية الله ؟ .
ثانياً : أدلة الكندي الفيلسوف على وجود الله :
لا يُخصِّص لنا الكندي رسالة بعينها أو مبحثاً محدداً يعرض لنا فيه أدلته على وجود الله ، بل نراه يتناول دراسة هذه القضية في كثير من رسائله . ونذكر منها على سبيل المثال ، " رسالته في وحدانية الله وتناهي جرم الكون " ، ورسالته " الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد " .
1- دليل العناية والغائية في الكون :
نستطيع أن نقول أنَّ هذا الدليل من أهم الأدلة التي نجدها في رسائل الكندي الفلسفية .
فالكندي يستدل على وجود الله بالاستناد إلى فكرة الغائية والعناية الإلهية . يقول الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة : " إنَّ الكندي يردد في كثير من رسائله تأكيد القول بعظم القدرة الإلهية وسعة الحكمة وفيض الجود وكمال العناية بكل شئ وجعل بعض الأشياء أسباباً وعللاً للبعض الآخر " .
ونود ان نشير من جانبنا إلى أنّ الكثير من الفلاسفة سواء فلاسفة اليونان أو فلاسفة العصر الوسيط أو فلاسفة العصر الحديث قد أكّدوا على القول بالغائية في العالم وبالنظام والاتقان الموجود فيه . وقد صعد أكثرهم من ذلك القول بوجود إله للكون . أي أنّ العناية والغاية البارزة في أرجاء الكون سمائه وأرضه ، تؤدي عندهم إلى تقرير وجود علة للكون . وهذه العلة هي الله .
نجد هذا عند أفلاطون وأرسطو قديماً ، وليبنتز وكانت حديثاً ، مع ما بين أفكارهم في هذا المجال من تفاوت وتباين أحياناً . إلا أنهم يُعبِّرون في أقوالهم بصورة أو بأخرى ، عن تلك الفكرة الهامة .
وإذا نظرنا إلى ما تركه لنا فلاسفة الإسلام من مؤلفات ورسائل ، نجد فكرة الغائية والعناية الإلهية بارزة بروزاً ظاهراً ، حين يستدلون على وجود الله . ونجدهم أيضاً قد ربطوا ربطاً وثيقاً بين فكرة الغائية وفكرة العناية الإلهية . ولعلهم أرادوا من ذلك تفادي ما في مذهب أرسطو من نقص . ذلك النقص الذي يتمثل في تلك الفجوة بين الله والعالم . أي أنهم أرادوا أن يؤكدوا وجود علاقة بين الله والعالم ، بدليل تلك الغائية والعناية الإلهية المشاهدة في الكون الذي نعيش في سمائه وأرضه ، أي العالم العلوي والعالم السفلي .
نجد مثلاً عند ابن سينا الذي يركز على القول بالعلة الغائية ، كعلة رابعة من علل الموجودات الطبيعية . ثم يحاول أن يصعد من ذلك – حين يبحث في مجال الإلهيات – إلى الربط بين وجود هذه العلة وبين وجود مسبب لها ، بحيث يبدو الكون مظهراً لعناية الخالق به .
كما نجد ذلك أيضاً عند ابن رشد فيلسوف المغرب الإسلامي ، حين يقرر العناية والغائية ، بحيث نجد عنده استدلالاً على وجود الله يستند على فكرتي العناية والغائية .
تقرير الغائية والربط بينهما وبين العناية الإلهية ، تعد اذن من الظواهر الملاحظة التي نجدها عند أكثر فلاسفة الإسلام من خلال مؤلفاتهم . فالكندي له نصوص عديدة يحاول فيها الاستدلال على الغائية والحكمة والعناية الإلهية . ورغم أننا لا نجد له بحوثاً مستقلة وقائمة بذاتها في موضوع العناية والغائية في الكون ، بحيث تكون هذه البحوث ممثلة لفكرته تمام التمثيل ، إلا أننا لو جمعنا بين أقواله المتـــناثرة حول هذا الموضوع في رسائله ، استطعنا أن نقول أنه يركز على القول بالغائية و يربط بينهما وبين العناية الإلهية ، بحيث يكون ممثلاً للإتجاه الفكري الإسلامي ، الذي يستند إلى كثير من آيات القرآن الكريم التي تثبت وجود عناية وغاية في الكون .
ومن هذه الآيات قوله تعالى : " ألم نجعل الأرض مهادا ، والجبال أوتادا ، وخلقناكم أزواجا ، وجعلنا نومكم سباتا ، وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا ، وبنينا فوقكم سبعا شدادا ، وجعلنا سراجا وهاجا ، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ، لنخرج به حباً ونباتا ، وجنات ألفافا " . ( سورة النبأ ) .
وقوله تعالى : " تبارك الذي جعل في السماء بروجا ، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا " . ( سورة الفرقان ) ، وقوله تعالى : " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ "( سورة الأعراف ) .
والكندي حين يقرر وجود العناية والغائية ويصعد من ذلك إلى اثبات وجود الله ، أما أن يبين لنا تلك الغائية الموجـــودة في هذا الكــــون الأرضي وأما أن يحاول الــــربط بين الظـــواهر الكونيــة الأرضية ، والظواهر الجوية العــلـــوية . أي يـحــــاول بيان استــناد الظــواهر الأرضـية إلى عـوامل علـــوية ، وفي كل ذلك ما يشـــهد بوجـــود خالق أحسن كل شئ صنعاً .
نوضح ذلك فنقول بأننا إذا رجعنا على سبيل المثال إلى رسالته في " الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد " ، نراه يذهب إلى أن نظم هذا العالم وترتيبه ، وتسخير بعضه لبعض ، وإتقان هيئته ، لأعظم دلالة على أتقن تدبير وعلى أحكم حكمة . وهذا التدبير وهذه الحكمة تدل عند الكندي على وجود مدبّر حكيم
وإذا كنا قد ذكرنا منذ قليل أنَّ الكندي يحاول الربط بين الظواهر العلوية والظواهر الأرضية ، ويصل من ذلك إلى إثبات وجود الله ، فإنّ ذلك يتضح من خلال الكثير من الأمثلة والشواهد التي يضربها لنا الكندي كأمثلة للعناية الإلهية والغائية سواء في العالم العلوي ، أو العالم السفلي . وهذا كله يدل على وجود خالق حكيم .
فهو مثلاً يرى أن قوام الأشياء الموجودة في عالم الكون والفساد ، يرجع إلى اعتدال الشمس في فلكها ، بحيث تدنو من مركز الأرض تارة ، وتبعد عنه تارةً أخرى .
وما يقال عن الشمس ، يقال عن القمر . إذ لو لم يكن اعتدال بُعده من الأرض على ما هو عليه الآن ، بل أقرب ، لمنع تكون السحاب والأمطار ، لأنه كان يَحِلُّ البخار ويبدده ويلطفه ولا يدعه أن يجتمع ولا يتكثَّف
وهكذا يضرب لنا الكندي الكثير من الأمثلة سواء في رسالته هذه ، أو في العديد من رسائله الأخرى ، لاثبات العناية والغائية ، وكيف أنها تؤدي لا محالة إلى وجود الخالق وهو الله سبحانه وتعالى . يقول الكندي :" فقد تبين أن كون جميع الأشخاص السماوية على ما هي عليه من المكان الذي هو الأرض والماء والهواء . ونضد ذلك وتقسيطه ، هو علة الكون والفساد في الكائنات الفاسدات ، الفاعلة القريبة ، أعني المرتبة بإرادة باريها هذا الترتيب الذي هو سبب الكون والفساد . وأنّ هذا من تدبير حكيم عالم قوي جواد عالم متقن لما صنع ، وأنّ هذا التدبير في غاية الإتقان .
2- دليل المشابهة والتماثل بين النفس في البدن والله بالنسبة للكون :
هذا دليل آخر من أدلة الكندي على وجود الله . فإذا رجعنا إلى رسالته في حدود الأشياء ، نجده يشير إلى دليل على وجود الله يعتمد على فكرة المشابهة أو التمثيل بين عمل النفس بالنسبة للبدن ، وبين الله بالنسبة للكون أو العالم كله .نوضح ذلك بالقول بأن النظام في الجسم الإنساني ، إذا كان يدل على وجود قوة خفية غير مرئية ، وهي النفس التي تُسيّر الجسم ، فإن التدبير في الكون يدل على وجود مدبر له .ومعنى هذا أننا إذا كنا نستدل على وجود النفس التي لا ترى ، بوجود تنظيم في شئ مرئي وهو الجسم الإنساني ، فإننا نستدل أيضاً على وجود خالق للكون لا يرى ، من وجود التدبير في هذا العالم المرئي . يقول الكندي : إنَّ العالم المرئي لا يمكن أن يكون تدبيره إلا بعالم لا يرى ، والعالم الذي لا يرى ، لا يمكن أن يكون معلوماً إلا بما يوجد في هذا العالم من التدبير والآثار الدالة عليه .
وهكذا يُسوِّق لنا دليلاً على وجود الله تعالى يعتمد على فكرة المقارنة بين عمل النفس في البدن ، وعمل الله في الكون . أي أن وجود النظام في الكون يدل على وجود منظم له وهو الله ، تماماً كما تدل أفعال البدن على وجود نفس له ، تُدبِّرُه وتُسيِّرُه .
3- دليل الإنسجام والوحدة :
وهذا دليل ثالث من أدلة الكندي على وجود الله . فهو يلاحظ أنّ هذا العالم سواء ما كان منه سماوياً أو أرضياً ، يُعدُّ مركبا وتعتريه الكثرة والتغيّر .
ولكن هذه الأشياء تُعدُّ – فيما يرى الكندي – أشياء عارضة في هذا العالم ، أي ليست جوهرية أساسية له ، ومن هنا لابد أنَّ نرجعها إلى علة واحدة ، ليست داخل هذا العالم ، بل هي خارجة عن العالم . وهذه العلة هي الذات الإلهية ، الواحدة غير المتكثرة .
اتضح لنا الآن كيف حاول الكندي جهده في تقديم الكثير من الأدلة على وجود الله . ولعل القارئ قد لاحظ تنوع هذه الأدلة . فمنها ما يستند إلى تقرير الغائية والعناية الإلهية ومنها ما يقوم على الصعود من التركيب والكثرة والتغير الذي نراه في عالمنا هذا ، إلى ذات إلهية واحدة ، تُعدُّ خارج هذا العالم . ومنها ما يعتمد على التمثيل بفكرة النفس في البدن الإنساني ومقارنتها بضرورة وجود الله لتدبير العالم سمائه وأرضه .
أولاً : جوانب التدليل على وجود الله في الفكر العربي الإسلامي :
لا يخفى على المشتغلين بالفكر الفلسفي العربي ، أنَّ قضية التدليل على وجود الله ومحاولة البرهنة على وحدانيته ، من القضايا الفلسفية التي خاض فيها أكثر فلاسفة الإسلام ، سواءً في المشرق العربي كالكندي والفارابي وابن سينا ، أو في المغرب الإسلامي كابن رشد الفيلسوف الأندلسي .
وفي بحثنا هذا سندرس هذه القضية عند أول فلاسفة الإسلام وهو الكندي . وذلك من خلال المؤلفات والرسائل التي تركها الكندي . تلك الرسائل التي نجد بين ثناياها محاولة قوية من جانبه للتدليل على وجود الله وتقرير وحدانيته تعالى ، من عدة زوايا وجوانب ، نكاد نقطع من جانبنا أنها تنظر إلى المشكلة من جميع زواياها وأبعادها ، حتى تبدو بصورة أقرب ما تكون إلى الوحدة والتكامل .
نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار ، ارتباط بحثه لهذه القضية ، بقضية حدوث العالم وقِدَمه ، تلك القضية التي بحث فيها الكندي ومن جاء بعده من فلاسفة الإسلام .
نوضح ذلك بالقول بأننا إذا رجعنا إلى كتاب " تهافت الفلاسفة " للغزالي ، نجده يذهب إلى أنَّ الفلاسفة الذين قالوا بِقِدَم العالم قد تناقضوا مع أنفسهم حين حاولوا التدليل على وجود الله .
وهذا معـناه أنَّ كل فيـلسوف يقرر أنَّ العـالم قديم ، ثم يُسَّوق أدلـة على وجود الله ، فإنه يـتناقض مع نفسه فيما يقرر الغزالي .
وسبب هذا أنَّ شرط الفعل عند الغزالي هو أن يكون حادثاً ، لأن الحادث لا يوجد من نفسه ، بل يحتاج إلى صانع . أما إذا قلنا بِقدم الـعالم وأثبتـنا له مع ذلـك صانعاً ، أي خالقاً ، فإن هذا يـدلنا على التناقض فيما يرى الغزالي .
وهذا يعني أنّ هناك من المفكرين كالغزالي من يربط بين القول بحدوث العالم والقول بوجود الله ، بحيث أنّ التسليم بحدوث العالم يـؤدي لا مـحالة إلى التسليم بوجود الله . كما يربط بين الـقول بقِدم العالم ، والقـول بعدم الاعتراف بعلة الكون .
ومن هنا فإن بحث الكندي الذي يقول بحدوث العالم يرتبط تماماً بتدليله على وجود الخالق . أي أنّ العالم عنده إذا كان حادثاً ، فإنّ هذا الحادث لا بد له من علة أحدثته وأظهرته إلى الوجود . وهذه العلة هي الله .
فما هي اذن أهم أدلة الكندي على وجود هذه العلة ؟ وكيف أثبت لنا وحدانية الله ؟ .
ثانياً : أدلة الكندي الفيلسوف على وجود الله :
لا يُخصِّص لنا الكندي رسالة بعينها أو مبحثاً محدداً يعرض لنا فيه أدلته على وجود الله ، بل نراه يتناول دراسة هذه القضية في كثير من رسائله . ونذكر منها على سبيل المثال ، " رسالته في وحدانية الله وتناهي جرم الكون " ، ورسالته " الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد " .
1- دليل العناية والغائية في الكون :
نستطيع أن نقول أنَّ هذا الدليل من أهم الأدلة التي نجدها في رسائل الكندي الفلسفية .
فالكندي يستدل على وجود الله بالاستناد إلى فكرة الغائية والعناية الإلهية . يقول الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة : " إنَّ الكندي يردد في كثير من رسائله تأكيد القول بعظم القدرة الإلهية وسعة الحكمة وفيض الجود وكمال العناية بكل شئ وجعل بعض الأشياء أسباباً وعللاً للبعض الآخر " .
ونود ان نشير من جانبنا إلى أنّ الكثير من الفلاسفة سواء فلاسفة اليونان أو فلاسفة العصر الوسيط أو فلاسفة العصر الحديث قد أكّدوا على القول بالغائية في العالم وبالنظام والاتقان الموجود فيه . وقد صعد أكثرهم من ذلك القول بوجود إله للكون . أي أنّ العناية والغاية البارزة في أرجاء الكون سمائه وأرضه ، تؤدي عندهم إلى تقرير وجود علة للكون . وهذه العلة هي الله .
نجد هذا عند أفلاطون وأرسطو قديماً ، وليبنتز وكانت حديثاً ، مع ما بين أفكارهم في هذا المجال من تفاوت وتباين أحياناً . إلا أنهم يُعبِّرون في أقوالهم بصورة أو بأخرى ، عن تلك الفكرة الهامة .
وإذا نظرنا إلى ما تركه لنا فلاسفة الإسلام من مؤلفات ورسائل ، نجد فكرة الغائية والعناية الإلهية بارزة بروزاً ظاهراً ، حين يستدلون على وجود الله . ونجدهم أيضاً قد ربطوا ربطاً وثيقاً بين فكرة الغائية وفكرة العناية الإلهية . ولعلهم أرادوا من ذلك تفادي ما في مذهب أرسطو من نقص . ذلك النقص الذي يتمثل في تلك الفجوة بين الله والعالم . أي أنهم أرادوا أن يؤكدوا وجود علاقة بين الله والعالم ، بدليل تلك الغائية والعناية الإلهية المشاهدة في الكون الذي نعيش في سمائه وأرضه ، أي العالم العلوي والعالم السفلي .
نجد مثلاً عند ابن سينا الذي يركز على القول بالعلة الغائية ، كعلة رابعة من علل الموجودات الطبيعية . ثم يحاول أن يصعد من ذلك – حين يبحث في مجال الإلهيات – إلى الربط بين وجود هذه العلة وبين وجود مسبب لها ، بحيث يبدو الكون مظهراً لعناية الخالق به .
كما نجد ذلك أيضاً عند ابن رشد فيلسوف المغرب الإسلامي ، حين يقرر العناية والغائية ، بحيث نجد عنده استدلالاً على وجود الله يستند على فكرتي العناية والغائية .
تقرير الغائية والربط بينهما وبين العناية الإلهية ، تعد اذن من الظواهر الملاحظة التي نجدها عند أكثر فلاسفة الإسلام من خلال مؤلفاتهم . فالكندي له نصوص عديدة يحاول فيها الاستدلال على الغائية والحكمة والعناية الإلهية . ورغم أننا لا نجد له بحوثاً مستقلة وقائمة بذاتها في موضوع العناية والغائية في الكون ، بحيث تكون هذه البحوث ممثلة لفكرته تمام التمثيل ، إلا أننا لو جمعنا بين أقواله المتـــناثرة حول هذا الموضوع في رسائله ، استطعنا أن نقول أنه يركز على القول بالغائية و يربط بينهما وبين العناية الإلهية ، بحيث يكون ممثلاً للإتجاه الفكري الإسلامي ، الذي يستند إلى كثير من آيات القرآن الكريم التي تثبت وجود عناية وغاية في الكون .
ومن هذه الآيات قوله تعالى : " ألم نجعل الأرض مهادا ، والجبال أوتادا ، وخلقناكم أزواجا ، وجعلنا نومكم سباتا ، وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا ، وبنينا فوقكم سبعا شدادا ، وجعلنا سراجا وهاجا ، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ، لنخرج به حباً ونباتا ، وجنات ألفافا " . ( سورة النبأ ) .
وقوله تعالى : " تبارك الذي جعل في السماء بروجا ، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا " . ( سورة الفرقان ) ، وقوله تعالى : " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ "( سورة الأعراف ) .
والكندي حين يقرر وجود العناية والغائية ويصعد من ذلك إلى اثبات وجود الله ، أما أن يبين لنا تلك الغائية الموجـــودة في هذا الكــــون الأرضي وأما أن يحاول الــــربط بين الظـــواهر الكونيــة الأرضية ، والظواهر الجوية العــلـــوية . أي يـحــــاول بيان استــناد الظــواهر الأرضـية إلى عـوامل علـــوية ، وفي كل ذلك ما يشـــهد بوجـــود خالق أحسن كل شئ صنعاً .
نوضح ذلك فنقول بأننا إذا رجعنا على سبيل المثال إلى رسالته في " الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد " ، نراه يذهب إلى أن نظم هذا العالم وترتيبه ، وتسخير بعضه لبعض ، وإتقان هيئته ، لأعظم دلالة على أتقن تدبير وعلى أحكم حكمة . وهذا التدبير وهذه الحكمة تدل عند الكندي على وجود مدبّر حكيم
وإذا كنا قد ذكرنا منذ قليل أنَّ الكندي يحاول الربط بين الظواهر العلوية والظواهر الأرضية ، ويصل من ذلك إلى إثبات وجود الله ، فإنّ ذلك يتضح من خلال الكثير من الأمثلة والشواهد التي يضربها لنا الكندي كأمثلة للعناية الإلهية والغائية سواء في العالم العلوي ، أو العالم السفلي . وهذا كله يدل على وجود خالق حكيم .
فهو مثلاً يرى أن قوام الأشياء الموجودة في عالم الكون والفساد ، يرجع إلى اعتدال الشمس في فلكها ، بحيث تدنو من مركز الأرض تارة ، وتبعد عنه تارةً أخرى .
وما يقال عن الشمس ، يقال عن القمر . إذ لو لم يكن اعتدال بُعده من الأرض على ما هو عليه الآن ، بل أقرب ، لمنع تكون السحاب والأمطار ، لأنه كان يَحِلُّ البخار ويبدده ويلطفه ولا يدعه أن يجتمع ولا يتكثَّف
وهكذا يضرب لنا الكندي الكثير من الأمثلة سواء في رسالته هذه ، أو في العديد من رسائله الأخرى ، لاثبات العناية والغائية ، وكيف أنها تؤدي لا محالة إلى وجود الخالق وهو الله سبحانه وتعالى . يقول الكندي :" فقد تبين أن كون جميع الأشخاص السماوية على ما هي عليه من المكان الذي هو الأرض والماء والهواء . ونضد ذلك وتقسيطه ، هو علة الكون والفساد في الكائنات الفاسدات ، الفاعلة القريبة ، أعني المرتبة بإرادة باريها هذا الترتيب الذي هو سبب الكون والفساد . وأنّ هذا من تدبير حكيم عالم قوي جواد عالم متقن لما صنع ، وأنّ هذا التدبير في غاية الإتقان .
2- دليل المشابهة والتماثل بين النفس في البدن والله بالنسبة للكون :
هذا دليل آخر من أدلة الكندي على وجود الله . فإذا رجعنا إلى رسالته في حدود الأشياء ، نجده يشير إلى دليل على وجود الله يعتمد على فكرة المشابهة أو التمثيل بين عمل النفس بالنسبة للبدن ، وبين الله بالنسبة للكون أو العالم كله .نوضح ذلك بالقول بأن النظام في الجسم الإنساني ، إذا كان يدل على وجود قوة خفية غير مرئية ، وهي النفس التي تُسيّر الجسم ، فإن التدبير في الكون يدل على وجود مدبر له .ومعنى هذا أننا إذا كنا نستدل على وجود النفس التي لا ترى ، بوجود تنظيم في شئ مرئي وهو الجسم الإنساني ، فإننا نستدل أيضاً على وجود خالق للكون لا يرى ، من وجود التدبير في هذا العالم المرئي . يقول الكندي : إنَّ العالم المرئي لا يمكن أن يكون تدبيره إلا بعالم لا يرى ، والعالم الذي لا يرى ، لا يمكن أن يكون معلوماً إلا بما يوجد في هذا العالم من التدبير والآثار الدالة عليه .
وهكذا يُسوِّق لنا دليلاً على وجود الله تعالى يعتمد على فكرة المقارنة بين عمل النفس في البدن ، وعمل الله في الكون . أي أن وجود النظام في الكون يدل على وجود منظم له وهو الله ، تماماً كما تدل أفعال البدن على وجود نفس له ، تُدبِّرُه وتُسيِّرُه .
3- دليل الإنسجام والوحدة :
وهذا دليل ثالث من أدلة الكندي على وجود الله . فهو يلاحظ أنّ هذا العالم سواء ما كان منه سماوياً أو أرضياً ، يُعدُّ مركبا وتعتريه الكثرة والتغيّر .
ولكن هذه الأشياء تُعدُّ – فيما يرى الكندي – أشياء عارضة في هذا العالم ، أي ليست جوهرية أساسية له ، ومن هنا لابد أنَّ نرجعها إلى علة واحدة ، ليست داخل هذا العالم ، بل هي خارجة عن العالم . وهذه العلة هي الذات الإلهية ، الواحدة غير المتكثرة .
اتضح لنا الآن كيف حاول الكندي جهده في تقديم الكثير من الأدلة على وجود الله . ولعل القارئ قد لاحظ تنوع هذه الأدلة . فمنها ما يستند إلى تقرير الغائية والعناية الإلهية ومنها ما يقوم على الصعود من التركيب والكثرة والتغير الذي نراه في عالمنا هذا ، إلى ذات إلهية واحدة ، تُعدُّ خارج هذا العالم . ومنها ما يعتمد على التمثيل بفكرة النفس في البدن الإنساني ومقارنتها بضرورة وجود الله لتدبير العالم سمائه وأرضه .